[ كتبت ناديا بوعلي هذه المادة وتم تداولها في أكثر من موقع. اضغط/ي هنا للنسخة الإنجليزية]
ما نشهده خلال اليومين الماضيين في شوارع بيروت يُفرح ويُقلق في آن.إن الصراع الاجتماعي ضد رأس المال النيوليبرالي وسلطة الدولة المتمثلة بجهاز إيديولوجي مدعوم من قبل السلطة الأمنية والعسكرية هو صراع صعب وطريقة قاسية وشاقة. لا بد لنا من أن نؤكد على أحقية هذا التحرك الشعبي وأن نتضامن معه بكل الوسائل من أجل تحقيق أهدافه الثورية.الصعوبات الأساسية التي تواجه المتظاهرين اليوم تكمن في كيفية التخلص من صيغة المطالب الشعبوية المقرونة بوطنية لبنانية كَثُر تواجدها في الخطاب العام للتحرك، الاحتفاء بالنشيد الوطني اللبناني والدعوة لوحدة الطوائف وترابط الإسلام والمسيحية، يجب أن يُستبدل بالمطالبة بالعدالة الاجتماعية، إلغاء سيطرة العلاقات الطبقية في المجتمع، وإعادة الأملاك والمصالح العامة التي تم الاستيلاء عليها وتفكيكها تفكيكاً منظماً في السنوات الماضية.إن ترويكا رأس المال النيوليبرالي، الدولة الطائفية، وميليشيا الزبائنية المسيطرة على البلاد هي عدو متوحش، يعيش ويتغذى من المشاعر الوطنية والقومية. و الوطنية التي تخلو من أي معاداة لرأس المال هي بالضبط ما يُنقذ الدولة من أزمتها الناتجة عن صراعها مع القوى الاجتماعية الثورية الفاعلة على الأرض.
هذه اللحظة التاريخية تستدعي إعادة بلورة المفاهيم، إعادة تعريف مفهوم "السياسة" أساساً عوضا عن الخوف من "التسييس"، إذا كان بعض المنظمين قلقين من الممارسات السياسية الموجودة فعليهم إعادة تعريف السياسة على أنها اساساً ممارسة يومية، وبنية العلاقات الاجتماعية الإنسانية أصلاً.
ماذا يعني ان نطالب بمجتمع خال من الفساد؟ ماذا تعني الدعوة لدحض هذا المفهوم الاجتماعي من دون النظر إلى العلاقة الوطيدة بين الرأسمالية والفساد، علاقة عمرها قرون على الأقل. مطالب بعض المتظاهرين بإنهاء الفساد من خلال إنشاء قضاء شفاف مستقل يجب أن يُساءل ويُثوّر، ألم نتعلم شيئاً من التجارب التاريخية السابقة؟ إن الفصل بين الحقوق والواجبات، أحد أسس الدولة الليبرالية الرأسمالية، يقوم بتغييب وتغريب الفرد عن محيطه، يُحرم الأفراد من القدرات والمكنونات السياسية، ويبني جميع أنواع العداءات الاجتماعية: الجار، الآخر، المسلم، المسيحي، الغريب، هذه شخصانيات ممكنة أمام القانون وعلى بعد خطوات منه فقط.
ان العدّة المفهومية للتحرك الشعبي يجب أن تواجَه ويُعاد تشكيلها، من هنا علينا استبدال مفهوم عدم التسييس بإعادة تعريف السياسة، علينا استبدال مفهوم الناشط بالثائر، ازدواجية العنف واللاعنف بعنف الدولة والعنف الثوري (الذي قد يكون مسالماً إنما تغييري للبنية الاجتماعية برمتها)، استبدال مفهوم إلغاء الطبقة السياسية بإلغاء مفهوم الطبقة بحد ذاته، إستبدال شعار ضد الفساد بشعار ضد النيوليبرالية الرأسمالية ... والى ما ذلك. ونضيف الى ذلك، أن دور الإعلام والتلفزيون محطم لطاقة التحرك من خلال تقديم التحرك الشعبي على أنه تحرك من أجل المواطنة وتقديم الهوية الوطنية على أنها أمر منجز، بينما الصراع على الأرض يفاوض معنى الهوية من أساسه و بالتحديد الهوية الطبقية من خلال القول بإسقاط النظام بأكمله. علينا أن نعي مخاطر استهلاك مفاهيم الوطنية اللبنانية الذي يُفرض علينا، لا يمكن أن تبقى بيروت مركز الثورة الشعبية، كل الشوارع، والأحياء، والمناطق، والقرى والبلدات والمدن الاخرى، كل منزل يجب أن يصبح مركزا للثورة.
إن التحرك الشعبي يفرض على اليسار أن يُعيد التشكل، وأن يعي دوره التاريخي الآن، يجب إعادة صياغة مشروع ثوري وكوني يمتد خارج الإطار الوطني، يجب الكشف عن الشروط المحلية للهيمنة والسيطرة العالمية لرأس المال، يجب الدعم الصادق للتحرك الشعبي من أجل تفعيل سياسة ثورية تخرج عن أطر الأحزاب الموجودة والجمعيات غير الحكومية. إيجاد حل لأزمة النفايات ليس الهدف الوحيد من هذه الانتفاضة مع أن وجود النفايات تخطى حدود الهويات المتفرقة و مناطقها و أخل بالنظام القائم, فالنفايات لا تتكترث لمبدأ الهوية, هي "المزيد" الذي استحضر الشروط التاريخية لهذه الانتفاضة الشعبية علينا الآن نبني على الخلل و نجيب على السؤال الملح الذي اندفع المتظاهرون للرد عليه: كيف نصيغ برنامجاً سياسياً بديلاً ومناقضاً لرأس المال النيوليبرالي من دون اللجوء إلى مفاهيم النظام نفسه: " الديموقراطية" و "حكومة التكنوقراط" و "الإصلاح"؟